الرفيق الشهيد جوزف رزق الله بعض من مسيرة غنية بالنضال

الأمين لبيب ناصيف

من الكتاب الذي كان صدر مؤخراً، وفيه الكثير عن الرفيق الشهيد جوزف رزقالله ،ننشر ادناه النص الحرفي لابرز ما جاء في الصادرة التي كان وجهها الشهيد بتاريخ 25/01/1956 الى عمدة الثقافة، وفيها معلومات كثيرة عن مراحل مسيرته الحزبية الغنية بالتفاني و النضال.

*

تقولون في صادرة لكم إنكم تعتزمون تأليف كتاب عن تاريخ الحزب(1). وقد قُـرئت علينا هذه الصادرة في اجتماع زمرتنا الاخير من قبل رئيس الزمرة بالوكالة، وبناء عليه أعلق على هذه الصادرة فأقول إن من لم يتحمل مسؤوليات مركزية شاملة من القوميين الاجتماعيين لا يستطيع ان يساعدكم في وضع معلومات عامة تحت تصرفكم، وانا منهم. ولكن اذا اراد كل رفيق ان يسجل هو بنفسه المراحل التي مرّ بها قبل وبعد انتمائه الى الحركة القومية الاجتماعية فإنكم تستطيعون ان تكتبوا تاريخين في كتاب واحد: تاريخ المجتمع السوري المفكك الاوصال قبل نشوء الحركة السورية القومية الاجتماعية وتاريخ الحزب بعد انشاء هذه الحركة المحيية من قبل سعاده العظيم. بناء عليه، ارسل لكم كل ما اعرفه انا عن الحزب من خلال درسي إياه قبل انتمائي إليه ومن خلال ممارستي لعضويتي بعد انتمائي هذا.

*

 بين سنة 1935 و سنة 1947

كنت طالباً في مدرسة الحكمة، ولم أكن اسمع الا بضجيج الشباب الذي تثيره احزاب الكتائب اللبنانية والنجادة وحزب الوحدة اللبنانية. ولكن في احدى هذه السنوات، رجع من فرصة عيد الميلاد صديق مدرسة لي يدعى سيمون كرم  من قريته “حامات”(2) في الكورة(3)، وأخبرنا ان في قريته حركة سياسية جديدة تدعى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وان معلم المدرسة هناك يلقن مبادئ هذا الحزب للتلاميذ خارج ساعات الدرس لأن وجهاء القرية وكاهن رعيتها ورئيس المخفر المجاور غير راضين عن نشوء هذه الحركة.

مرّت هذه القصة علينا مروراً عابراً لأن سننا لم تكن لتستوعب هذه القضية، ولأن الكتائب اللبنانية كانت تستهوينا أكثر من غيرها. وبالفعل اوقفنا مدرّس الرياضة في المدرسة جوزيف خوري بالصف ووزع علينا الشارة الكتائبية. وبعد ان اخذ من كل واحد منا نصف ليرة، جلب لنا بعد يومين بطاقات انتساب. وهكذ ابقيت في هذه المنظمة الطائفية من 1937 الى 1947. وفي السنتين الاخيرتين تألمت نفسياً من وجودي في الكتائب اللبنانية لأنني تخلصت من الطائفية في نفسي، وحاولت فرض آرائي التقدمية، فكان نصيبي الاضطهاد .

(كلمات ناقصة في الاصل)

*

بين سنة 1945 وسنة 1947

في اوائل 1945 تزوجت. وكان لشقيق زوجتي صديق يدعى إدمون حايك(4). وبحكم صداقته لأهل زوجتي جاء يهنئني. وعند انتهاء الزيارة ترك كراساً للمبادئ القومية الاجتماعية طالباً مني درسه والرجوع إليه عند الحاجة. درست الكراس وأعجبني بعضه ولم يعجبني بعضه الآخر، او بالاحرى لم أفهمه. أما الناحية التي أشكلت عليّ فهي الناحية الاقتصادية. ومما ساعدني على شرودي عنها مقال للرفيق غسان تويني يُفهم منه ان العامل في النظام القومي الاجتماعي هو آلة صماء فحسب.

وقضيت تلك السنوات الثلاث في الاجتماع بالقوميين الاجتماعيين ومباحثتهم ومناقشتهم وكتابة تقارير انتقاد واعجاب عنهم وعن حزبهم للمراجع الكتائبية . 

ولكن بقدر ما كنت أتعمق بعلاقتي معهم، بتُ أشعر بأن إعجابي يزداد بهم وانتقاداتي واعتراضاتي تنهار الواحدة بعد الاخرى. وأما الذي يعود له الفضل الاكبر في إيقاظي ودفعي الى الحركة القومية الاجتماعية فهو الرفيق إدمون حايك، ويليه بترتيب الأهمية كل من: الرفيق الياس سمعان(5) والامين اسكندر شاوي(6)، والرفيق فريد مبارك(7) والمطرود نعمة ثابت والمطرود فايز الصايغ والرفيق وديع الاشقر(8). ولم أعد أذكر غيرهم.

وأخذت أطالع جريدة الحزب، ثم اشتركت بمجلة الثقافة التي كانت تصدر عن عمدة الثقافة. وأني اعترف ان هذه المجلة ابعدتني عن الحزب وأخرّت نوعاً ما انتمائي إليه. فقد كنت أخشى ان تكون آراء فايز الصايغ وغسان التويني هي آراء الحزب. فقد كانت تلك الآراء فردية وبعيدة كل البعد عن كراس المبادئ الذي اعطاني إياه الرفيق ادمون. ولكن هذا الرفيق بدّد مخاوفي قائلاً لي ان الحزب لن يرتبط في المستقبل الا بالمبادئ المعلنة والمشروحة من قبل الزعيم.

وقد كنت لم أزل كتائبياً عندما حضرت “يوم الاصلاح”(9) في ضهور الشوير بدعوة من الرفيق حايك، وبإذن من منفذية بيروت العامة. وكادت الشارة الكتائبية على سترتي ان تخلق لي مشاكل مع بعض قوميي بيروت الذين اعتقدوا أنني ارافقهم للتجسس عليهم. ولكن الرفيق حايك أعاد الامور الى نصابها، وعاملني القوميون معاملة حسنة، إن في “بيت مري” حيث تناولنا الطعام واسترحنا، او في “ضهور الشوير” نفسها حيث اعطوني كرسياً بين المدعوين.

ولما كنتُ قد قضيت هذه السنوات الثلاث في النضال النقابي لتحسين أحوال موظفي وعمال شركة “راديو أوريان” التي كنت أعمل فيها لاسلكياً، فقد نشبعت درساً واستقصاء لآراء الحزب الاقتصداية، لأن الشيوعيين (كلمات ناقصة في الاصل).

*

سنة 1948

في الشهر الاول من هذه السنة تقدمت باستقالتي الى رئيس الكتائب اللبنانية، مبيناً الاسباب التي حدت بي الى هذا القرار. وقابلت الكتائب انسحابي منها بجملة اشاعات مغرضة في الاشرفية. وحاول بعض الكتائبيين مراراً عديدة الاعتداء عليّ. وفي اوائل هذه السنة نفسها دبّ خلاف قوي بيني وبين زوجتي. ولما كان شقيقها كتائبياً وانا انتمي الى الحزب القومي الاجتماعي، فقد تبنت الكتائب هذا الخلاف واوكلت لزوجتي اربعة محامين منهم أمين سرها العام جوزيف شادر. وظلت الكتائب تلاحقني بما لها من نفوذ وساومتني على عقيدتي الجديدة، وتمكنت من سجني مرتين بتدخلاتها لدى الديوان الاسقفي الماروني في بيروت والنيابة العامة الاستئنافية. هذا كان موقف الكتائب مني.

والآن يطيب لي ان اسرد موقف الزعيم من قضيتي العائلية هذه. فبعد ان انتميت الى الحزب في نيسان من السنة نفسها، وعلم الزعيم بالنكبة العائلية التي أصبت بها، ابدى عطفه عليّ أمام الرفيق نقولا بردويل(10). واعتقد انه ارسل الرفيق عبدو زينون(11)، الذي كان ناموساً او مذيعاً في “مديرية الإقدام” التي ألحقت بها فور إتمام مراسيم انتمائي، الى زوجتي في محاولة لإصلاح ذات البين بينها وبيني. وكان لهذه البادرة تأثير كبير على نفسي وعلى أهلي، في حين كانت الكتائب توسع شقة الخلاف بيني وبين زوجتي، وتحاربني بأقدس العواطف العائلية الا وهي الابوة، اذ كنت قد رزقت طفلة قبل خلافنا بثلاثة اشهر. فقد حاول زعيم ي الخالد مساعدتي في قضية شخصية بحتة.

وفي هذه السنة كلفني عميد الداخلية وقتذاك الامين الياس جرجي قنيزح بتنظيم الدعاية لإدخال القوميين في مطار بيروت السابق. وقمت بعملي خير قيام باستثناء التأخير الذي لاحظته عليّ العمدة في تقديم تقاريري الدورية بمواعيدها.

وعندما بدأت حركة الادخال في المطار تأخذ شكلاً واسعاً، قام خصوم الحركة يحاربونني محاربة لا هوادة فيها، وعلى رأسهم الفرنسي Marcel Turpin  رئيس مصلحة الامن الجوي في مديرية المواصلات الجوية واحد انصار كارل ماركس المتحمسين. فأخذت التقارير تكتب بحقي للمديرية، وتلفّق تهماً كاذبة او تلصق مخالفات كان يقذفها بحقي مواطن يدعى جوزيف جورج رزق الله. فلم يسع احمد الاسعد وزير الاشغال العامة وقتذاك الا اصدار قراراً بفصلي عن العمل .

*

سنة 1949

بعد صرفي من الوظيفة اللاسلكية في المطار، بقيت عاطلاً عن العمل مدة من الزمن ساعدتني على تحمل مسؤوليات حزبية عديدة. فقد عُـينت ناموساًلمديريةالنصر المعاد تشكيلها ثم بانتقالي الى وظيفة مدير ثم محاسب أمين سر مصح ضهر الباشق، كلفت من قبل عمدة الداخلية بتنظيم منطقة “رومية” – المتن وإعادة تشكيل مديرية الفرات(12) في المصح نفسه.

وفي اواخر أيار قابلت الزعيم، وطلبت إعفائي من بعض المسؤوليات والواجبات العسكرية التي كنت اقوم بها في عمدة التدريب. وتركت لبنان سراً الى القامشلي لأن خلافي مع زوجتي ومع الذين كانوا يساندونها، وإهمالي حضور الجلسات والدفاع عن نفسي أديا الى استصدار قرار حبس بحقي. وفي هذا الهرب ساعدني الرفيق زكي ناصيف بمبلغ خمسين ليرة لم ارجعه له الا في سنة 1953. واستقبلني الرفيق زكي نظام الدين(13) في القامشلي في منزله. وكنت في احد مقاهي القامشلي مع بعض الرفقاء عندما سمعنا بحادثة الجميزة. ولكي أحمّس الرفقاء لمساعدة رفقائهم في لبنان، شرحت لهم بعض ما اعرف عمّا كنت أعتقد أنه قوة عسكرية في الحزب. وبعد ان قام بعض الرفقاء بجمع مبالغ من المال للتسلح، قدّم القسم الالكبر منها الرفيق زكي، تهيئنا للسفر الى دمشق لوضع أنفسنا تحت تصرف القيادة القومية في هذا الظرف العصيب. أما أنا فقد كان كل فكري في بيروت حيث تركت أوراق مديرية النصر ووثائق ودروساً وحلقات تتعلق ببعض الواجبات العسكرية التي كنت اتلقاها في الحزب. وقد مدني الرفيق تاج الدين مرتضى(14) بمبلغ خمس وعشرين ليرة، فوصلت الى منزلي في بيروت. ولكن أهلي كانوا قد سبقوني الى حرق الاوراق، فأكملت إحراق ما بقي منها. وجعلت همي وضع نفسي تحت تصرف الرئيس جورج عبد المسيح، إذ أنه كان يتعذر عليّ الاتصال بالزعيم الذي علمت أنه في منزل معروف صعب في دمشق لأنني اشتركت بنقل كمية من السلاح من هذا البيت اوصلناها حتى عين عنوب حيث سلّمناها للرئيس عبد المسيح وللرفيق اسكندر شاوي الذي كان وقتذاك منفذاً عاماً لبيروت بعد اعتقال الامين جبران جريج ليلة جادثة الجميزة في حديقة دار الزعيم. أما هذا العمل فقد عاونت الرفقاء الذين قاموا به واذكر منهم جوزيف حداد(15) وألبرت خوري(16) وأديب أبو سليمان.

وفي “عين عنوب” بقيت يومين تحت تصرف الرئيس عبد المسيح بانتظار أية مهمة، الى ان كان صباح 21/06/1949، وكنت أنام عند الرفيق عباس حمدان ومعي الشهيد معروف موفق(17)، ولم أعد أذكر الرابع. وعند الساعة الرابعة فجراُ سمعنا طرقاً شديداً على الباب الرسمي، فتسلل الرفقاء الثلاثة من باب الشرفة ومعهم اسلحتهم. وتبعتهم أنا، ولكنني لم أتبيّن الطريق الذي سلكوه وأخذت أعدو نحو بستان الخوخ الموجود في محلة “الشاوي” لاعتقادي بأن، هذا المكان آمن، ولو لم يكن كذلك لما اتخذه الرئيس عبد المسيح مخبئاً له. ولكن أطبق عليّ دركيان يحملان رشاشين وقاداني الى المنزل الذي خرجت منه. وهناك اعتقلوا والد الرفيقين توفيق وعباس حمدان رغم سنه كما اعتقلوا احد الاجراء وربطوا الثلاثة بحزام سروالي. ولم يقبضوا على اي قومي غيري سوى ناموس المديرية وهو من آل فخر الدين.

بعد ان وصل الموقوفون تلك الليلة من قرى الجرد والغرب، حشرونا في كميونات عسكرية وبوسطات مصادرة. ولم يكبلوا من هذا الجمع سوى ثلاثة هم: (س. ف.) من صوفر الذي يعتبر اليوم من ألد أعداء الحركة لمحاولته الهرب عند القبض عليه، والرفيق أديب حداد (الممثل التلفزيوني المشهور ابو ملحم) مدرب مديرية عاليه، وأنا، لأن النقيب شمعون قال للدركيين إنني خطر بعد ان صفعني وأنا مكبل أمامه.

وحين وصولنا الى قيادة الدرك، وضعونا في المهجع الأيمن. وهناك تلقيت دروسي في بطولة القوميين وتخاذل بعضهم الآخر. في اليوم الاول زارنا العقيد محمد جواد، وأخذ يحاول تحطيم أعصابنا محذراً إيانا من عدم الاقتراب من الشبابيك إذ ان (كلمات ناقصة في الاصل).

وكان في البنابة الثالثة خمسة انفرادات وضعوني في أحدها ووضعوا في الاربعة الباقية الرفيقين فؤاد نجار(18) وخليل حاوي(19) والامينين فؤاد ابو عجرم وعبدالله سعادة.. كان الامين سعاده لطيفاً مع الجميع، يشجّع الرفقاء على تحمل الاسر، ويساعد المحتاجين بالدخان والطعام، وانا منهم، ويعطينا الارشادات الصحية للمحافظة على نظافتنا ونظافة إنفراداتنا

وبعد وصول الرفقاء الابطال الذين اشتركوا بحوادث الغبيري وسرحمول، وضعت أمرة السجن مكان الرفيق فؤاد نجار الرفيق خليل مياسي، ومكان الامين ابو عجرم الرفيق احمد عكاشي.

ومن ثم نقلت الى الغرفة السادسة من البناية الرابعة، ووضع مكاني أحد الرفقاء الذين اشتركوا في معركة مشغرة. وفور وصولي الى الغرفة تبيّن لي ان المعنويات مرتفعة هنا بالنسبة الى “السيار”. وكان دأب الرفقاء جان طوق(20) وخليل ابو عجرم(21) ويوسف الدبس(22) وغيرهم رفع معنويات الشباب. ولكن الاول أحيل الى “القلعة” لأنه سمح لدمعة أن تنحدر على خده عندما جاء العقيد جواد ينبئ الرفقاء بتهكم ان الزعيم قد أعدم، ويزيد ساخراً انه لم يعد هناك وجود للحزب السوري القومي .

الامين محمد يوسف حمود في احتفال 8 تموز 1957 في رويسات صوفر ،  ويبدو الرفيق جوزف الى يمينه والرفيقان حمد فياض وفايز قاسم عبد الخالق الى اليسار 

وبينما كنت أفكر بأن اعتقالي سيكون حافزاً لزوجتي ومن يقف وراءها لكي يتراجعوا عن ملاحقتهم لي، إذ بي أتبلغ قرار حبس مدته ستة اشهر. وكذلك وصلتْ الى كثير من الرفقاء اوراق تبليغ لحضور جلسات تتعلق بدعاوى أقامها عليهم اصحاب بيوتهم لتأخرهم عن تسديد بدلات الايجار. ولكن ابي لم يتركني، بل قام بوساطات لدى “اديب عفيش” وبذل مالاً مع موظفين في المحكمة العسكرية ليحشروا اسمي بين اسماء الذين كان يُـخلى سبيلهم كل ليلة، وخرجت من السجن على رغم قرار الحبس، وعوقب رئيس قلم السجن بسببي.

ولكن لم تمض اربع وعشرون ساعة على إخلاء سبيلي، حتى طلبني عفيش بواسطة احد موظفي المحكمة العسكرية المدنيين الذي كانت له اليد الطولى في اخلاء سبيلي من دون الرجوع الى رؤسائه. وتعهد هذا بشرفه انه لن تساء معاملتي ولن ابقى لدى المستنطق العسكري اكثر من عشر دقائق، وانه سيسألني فقط عن “المعهد اللاسلكي لعمدة التدريب” الذي يقول مرسوم من الزعيم انني كنت رئيسه. ولكني كنت قد سمعت اخبار الضرب والتعذيب الجسدي، ورأيت بأم عيني أرجل الرفقاء سيمون مهنا(23) وعلي مصلح وعلي رضوان(24)، متورمة من الضرب، والرفيق عبد اللطيف عبد الرحمن درويش مرمياً على الارض مقصوف الظهر. لذلك صممت على عدم التسليم رغم بكاء والدي ووالدتي اللذين سمعا درك صوفر يقولون لهما (كلمات ناقصة في الاصل).

وعدتُ رسول أديب عفيش بأن استسلم في اليوم التالي. لكني تركت المنزل ليلاً من دون ان ارتدي سترة حتى لا ادع أهلي يشعرون بفراري. غير انهم وافوني على الطريق وأنا انتظر سيارة تقلني الى الشام. وبقيت والدتي معي طوال الليل لتقنعني بالاستسلام بل وحتى مرافقتي الى المحكمة العسكرية. إلا انني تمكنت من الافلات منها في صباح اليوم التالي، واستقليت بوسطة أقلتني الى دمشق حيث نزلت ضيفاً على مواطن كان يعمل في شركة كهرباء صوفر. ولما علمت بأن رجال التحري اللبنانيين يجوبون دمشق بحثاً عن القوميين الفارين، وقد سمحت لهم السلطات الشامية باعتقال اي لبناني وسوقه الى لبنان، وبالفعل اعتقلوا قومياً في بلودان وأرجعوه الى بيروت، أكملت طريقي الى حلب. وهناك علمت بوجود اثنين من رجال التحري اللبنانيين احدهما يدعى ستراك، فقفلت راجعاً الى دمشق خاصة بعد ان بعت ساعة يدي بخُمس ثمنها ولم يعد معي دراهم. واختبأت في دمشق حتى صباح 14 آب 1949. وقبل طلوع فجر ذاك اليوم علمنا بمقتل حسني الزعيم ومحسن البرازي. واشتركت بالمظاهرة والسهرة الابتهاجية اللتين أقامهما الرفقاء الدمشقيون وعلى رأسهم نزار المحايري ويوسف اليازجي وغيرهما.

وبعد هذا الانفراج في دمشق اعتقدت بأن الحال لا بد ان تكون قد تبدلت في لبنان، فرجعت وبقيت في قريتي القصيبة – المتن حتى كانون الاول من السنة نفسها إذ توفق الوالد باستصدار منع محاكمة ووقف ملاحقة من المحكمة العسكرية، وتسلمت ورقة بهذا المعنى.

*

1950

في 7/1/1950 اعتقلني رئيس مخفر صوفر تنفيذاً لقرار حبس مدته ستة اشهر بسبب تمنعي عن دفع نفقة مجمدة لزوجتي. وفور دخولي سجن الرمل توسط لي أهلي مع ضابطين، فاستخدمت ككاتب في القلم. ولكني أدخلت في آذار الى غرف السجن بعد المحاولة الفاشلة التي قام بها الرفيق توفيق حمدان(25) لتنفيذ حكم الأمة برياض الصلح. تنظمنا داخل السجن دون العودة الى المراجع الحزبية التي كانت ضعيفة ولا يمكن الاتصال بها. وبعد ان اتفقنا ان يكون رئيسنا في السجن جورج حداد، تكلفت انا بالشؤون الإذاعية والثقافية.

*

1951

كان الحزب معدوم النشاط تقريباً في لبنان(26). ولم يكن امام القوميين الذين يودون القيام بعمل ما الا استئذان المسؤولين القدماء او زيارة دمشق والتفاهم مع المركز. حاولت جمع التبرعات، واستأذنت بذلك الرفيق ابراهيم يموت (الامين لاحقاً). ولكن المبلغ الزهيد الذي حصلت عليه لم يشجعني على المضي في نشاطي. أعطيت المبلغ الى عائلة الرفيق سجيع عيد الذي كان في السجن وقررت عدم الخوض في هذه الناحية. مع ذلك رحت أقدم مساعدات شخصية للقوميين في سجون جونيه والرمل وبعلبك. وأرضيت بذلك وجداني القومي وضرورة انسجامي مع قسمي.

جرت معي ثلاث حوادث مؤسفة مع ثلاثة رفقاء، لا زلت أفكر منذ ذلك التاريخ بتقديم تقرير بحقهم وطلب محاكمتهم لما أعلقه من أهمية على ما أتوه معي، ولما لذلك من ذيول خطيرة على المناقب القومية الاجتماعية. كنت أميناً على اموال كهرباء “صوفر” وتمديداتها ولا أتأخر عن تقديم أية خدمة لأي رفيق في القرى التابعة للامتياز وهي قبيع والقرية ومجدلبعنا وشانيه وصوفر ورويسات. وكنت قد ادخرت يوماً مبلغاً من المال لأزيد عليه تباعاً كي أتمكن من شراء قطعة سلاح، لأن من واجبات القومي ان يكون لديه سلاح. فالتقيت ذات يوم من شهر آذار بالرفيق (أ. أ. ر.) وهو خارج من السجن. ولما أعلمني عن حالته المادية، أخذته الى صوفر وأعطيته المبلغ بعد ان وعدني بإرجاعه في نيسان. مرت على هذه الحادثة سنوات خمس ولم يُرجع لي هذا الرفيق المبلغ ولا اي قسم من المبلغ. والاهمية ليست في عدم إرجاعه المبلغ بحد ذاته، 

لكن مررتُ بأيام اشتهيت فيها البارة الفرد ورجوت الرفيق ان يعطيني جزءاً بسيطاً من مالي، فكان يدّعي كذباً انه لا يملك شيئاً. لا بل أكثر من ذلك، فقد التقيت به في مساء احد الايام في دمشق وكنت جائعاً وليس معي غرش واحد لأشتري به ما يسد جوعي وأعلمته عن حالي دون خجل ولا مواربة. فدعاني الى الانتظار على الطريق وصعد الى مكتب “الجيل الجديد” ليقبض من مسؤول حزبي أجرة تدريسه في إحدى المدارس الحزبية، لكن لم (كلمات ناقصة في الاصل).

*

1952

ألحقت بمديرية الشهيد عباس حماد في دمشق، وكان مديرها الرفيق حنا كسواني(27). كانت المديريات تقضي اوقات اجتماعاتها بشرح المراسيم الاشتراعية التي كان يصدرها أديب الشيشكلي، وكأن الحزب انقلب الى مؤسسة شيشكلية. وكلما كان الحزب يلاطف هذا الساقط الى جانب الطريق، كان هو يمعن في اضطهاد الحزب وتوجيه الدولة توجيهاً عربياً رغم اننا بدأنا نشعر بأن المثقفين الشاميين اخذوا يتحسسون بالتاريخ والواقع السوريين. والدليل على ذلك ان محطة الاذاعة كانت تقول “الشعب السوري”، ومديرية الآثار قدمت ميزانيتها مع فذلكة هذا نصها التقريبي “لتتمكن هذه المديرية من التنقيب عن الآثار السورية عبر التاريخ ولتكشف عن معالم النفسية السورية التي طمستها عهود الانحطاط التي نكبت بها الامة السورية” . وكانت مجلة الجندي مجلة سورية قومية اجتماعية تقريباُ.

وفي هذه السنة ألقت الرفيقة ساذج نصار(28) خطاباً في بغداد خلال اجتماع للاتحاد النسائي العربي لم يرق للشيشكلي، فأبعدها الى لبنان رغم توسط الامين المحايري. ثم أبعد رفيقاً فلسطينياً رغم ان القيود المفروضة على تنقلات الفلسطينيين لا تجيز له الانتقال الى دولة سورية اخرى. أما انا فقد أبعدت بعد ان اتهمني العقيد محمود شوكت والمقدم فؤاد اسود بأنني أعكر العلاقات بين الشام والجمهورية الشعبية البولونية. ولما كنت أجنبياً، على حد تعبيرهما، فقد وضعاني في سيارة جيب وتركاني على الحدود دون ان يسمحا لي بأن أجلب ثيابي لأني تقدمت بتقرير الى المدير العام للأمن والشرطة أفضح فيه مكتب التجسس الذي يديره قنصل بولونيا في دمشق، وأعطيته اسماء الجواسيس اليهود مع ارقام جوازات سفرهم الديبلوماسية والطريق التي يسلكون.

*

1953

عُـينت ناظراً للاذاعة وخازناً لمنفذية الجرد ومديراً لمديرية صوفر.

*

1954

قمنا بأعمال جبارة. حيث تمكنا من إنشاء مديرية في بعلشميه، وأعدنا مديريات عين داره و قبيع الى الحياة. ثم اهتممنا بالذين سقطوا من الصفوف اثناء انتخابات 1953، فأعدنا من يحق لنا إعادته واقترحنا طرد البقية. ولكن المركز لم يأبه لاقتراحاتنا، ولا يزال هؤلاء يسيئون الى الحركة حتى اليوم.

بقيت على هذه الحال حتى 11 ايار من هذه السنة. وإذ بي أدخل السجن مجدداً لتمنعي عن دفع نفقة لزوجتي. وقد كنت الشغل الشاغل للكتائب التي كان مسؤولوها يتصلون بالنيابة العامة في بيروت وجبل لبنان ومع رئيس مخفر صوفر ورجال التحري، ويقدمون لهؤلاء السيارات والمال حتى انهم أقاموا عيداً عند اعتقالي. وفور دخولي السجن وبوساطة من المقدم إلياس رزق الله (كلف هذا الضابط بالدفاع عن الزعيم في المحاكمة الصورية سنة 1949 ويبدو أنه تأثر بالزعيم وأصبح فيما بعد قائداً للدرك)، ألحقت بمصانع السجن ثم بقلمه. وعندما جاء المقدم الى السجن للتوسط لي، قال لآمر السجن النقيب عزيز أبي مارون بالحرف الواحد وكان برفقته ضابطان كبيران من سلك الدرك: “قد تعتقد يا عزيز أفندي أني جئت أوصيك خيراً بجوزف لأنه من عائلتي. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكني أوصي به لانه قومي اجتماعي. ولا اكتفي بالتوصية فيه، بل ادعوك الى معاملة جميع القوميين الاجتماعيين نزلاء “سجن الرمل” معاملة تليق برجال الفكر والعقيدة الصحيحة مثلهم، فهم الفئة الوحيدة التي تستحق احترامي وهم يستحقون المعاملة الانسانية”. فأثنى على كلامه الضابطان الآخران، وقال احدهما وأعتقد انه المقدم عزت فرج: “الحق مع الياس بك، فعندما حاول المجرمون زرع الفوضى في سجن ديرالقمر لم يقف في جانبنا سوى القوميين الاجتماعيين، وساعدوا الادارة على إعادة الحالة الى ما كانت عليه”. ثم قام الضابط الثالث وقال انه عندما كان آمراً لسجن القلعة “تعهد القوميون داخل السجن مدارس للأميين، عدا عن ان المتعلمين والمثقفين منهم علموا وثقفوا الاميين بينهم” .

*

وفي النهاية اود ان اقترح على عمدتكم الموقرة ما يلي بخصوص تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي: 

اولاً: ان يسبق تاريخ الحزب وضع تاريخ شامل دقيق لسوريا.

ثانياً: اذا تعذر ذلك في الوقت الحاضر بكتاب على حدة، ارى ان توضع مقدمة كبيرة للكتاب المقترح تُذكر فيه الاحداث السورية من بداية تاريخها الجلي وحتى نشوء الحركة السورية القومية الاجتماعية.

ثالثاً: ان يكون هناك ارتباط وثيق مع النفسية السورية والارض السورية وفضلهما على نشوء هذه الحركة.

رابعاً: ان يُخصص القسم الاوفر من هذا الكتاب لسعاده من مولده حتى استشهاده، وابراز جميع نواحي شخصيته الفذة: موسيقى، فن، شعر، قصة، إدارة، استراتيجية عسكرية، علم اجتماع، الزوج الامثل، الاب المثالي، المعلم، عطفه على رفقائه، ازدرائه بالمساومات السياسية المكيافيلية… الخ.

خامساً: ان يليه بالأهمية شهداء الحركة من الذين قضوا في بطاح فلسطين الى آخرهم الرفيق عاطف جبران مع نبذة عن حياتهم وصراعاتهم ودرجاتهم العلمية والمسؤوليات الحزبية التي مارسوها، ووصف دقيق للمعارك التي خاضوها وما تركوه من ارامل وأيتام… إلخ.

سادساً: ان يترجم هذا الكتاب الى الفرنسية والانكليزية والاسبانية والبرتغالية.

*

هوامش

  1.   هذه من بين عشرات المحاولات التي انتهت كلها الى لا شيء. وعندما توليتُ مسؤولية جمع الوثائق المفيدة لتاريخ الحزب، اصطدمت بعقبات سأحكي عنها لاحقاً، للتاريخ. 
  2.   حامات: شهدت حضوراً حزبياً جيداً. من ابرز رفقائنا فيها الدكتور توفيق فرح . مراجعة النبذة المعممة عنه على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
  3. ملحقة حالياً بمنطقة البترون، لا بالكورة.
  4.   ادمون حايك: من ابرز رفقائنا المناضلين في منطقة الاشرفية. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
  5.   الياس سمعان: من بلدة “المنصف”. منح رتبة الامانة لماضيه الحزبي الصراعي، ولتفانيه. مراجعة الموقع آنفاً.
  6.   اسكندر شاوي: من مناضلي الحزب كذلك شقيقه الرفيق فؤاد، وله مسؤولياته الكثيرة وقد اقترن اسمه بالعديد من احداث الحزب،  مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
  7.   فريد مبارك: مراجعة النبذة عنه على الموقع المذكور آنفاً.
  8.   وديع الاشقر: كما آنفاً.
  9.   يوم الاصلاح: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
  10. نقولا برديول: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
  11. عبده زينون: من بلدة “رومية”. كان له نشاط جيد في ساحل المتن الشمالي وقد اتى على ذكره الامين مسعد    حجل في مذكراته “لم أبدّل.. ولنّ”، كما اشرت إليه مراراً في كتاباتي.
  12. مديرية “الفرات”: كان اتى على ذكرها الامين محمد جبلاوي. مراجعة الموقع آنفاً عن كل من الامين الراحل جبلاوي وعن “مديرية الفرات”.
  13. زكي نظام الدين: ذكرته في كثير من المناسبات، كما تحدث عنه الامين مسعد حجل في مذكراته. راجع الموقع آنفاً.
  14. تاج الدين مرتضى: مراجعة الموقع آنفاً.
  15.   جوزف حداد: من الرفقاء المناضلين، من بلدة “عين عنوب”
  16. البرت خوري: من الرفقاء المناضلين، من بلدة “عيناب”، شقيق الرفيقين سليم والفرد.
  17. معروف موفق: من بلدة “دير قوبل” شهيد في الثورة 1949. مراجعة الموقع آنفاً.
  18. فؤاد نجار: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
  19. خليل حاوي: الشاعر المعروف. من “ضهور الشوير”. مراجعة الموقع آنفاً.
  20. جان طوق: من بلدة “بشري”. رفيق مناضل. عمل في حقل المطبوعات الحزبية، خاصة في دار “ركن”.
  21. خليل ابو عجرم: مراجعة الموقع اعلاه. شقيق الامين فؤاد ابو عجرم.
  22. يوسف الدبس: مؤسس العمل الحزبي في البقاع الاوسط. مراجعة الموقع آنفاً
  23. سيمون بهنا: كان مديراً لمديرية المصيطبة عند انتمائي الى الحزب اواخر 1956.
  24. من رفقاء مديرية “عائشة بكار” (بيروت).
  25. توفيق حمدان: من بلدة “عين عنوب”. بطل قومي اجتماعي. كان وراء محاولة اغتيال السفيه يوسف شربل. مراجعة النبذة عنه على الموقع المذكور آنفاً.
  26. تغيّر الوضع بعد ان راحت تنشط مفوضية لبنان برئاسة الامين حسن الطويل وعضوية الامين مصطفى عزالدين ناموساً  وآخرين، من بينهم منفذ عام الطلبة الامين فوزي معلوف (مراجعة ما اوردنا عن مفوضية لبنان على الموقع المذكور آنفاً)
  27. حنا كسواني: مراجعة الموقع المذكور آنفاً .
  28. ساذج نصار: والدة الرفيق الصحافي فاروق نصار، مراجعة الموقع آنفاً.